القائمة الرئيسية

الصفحات

pub-3714699381183573

نهاية السيد النبيل.

نهاية السيد النبيل.



إنه صاحب السعادة والشرف ووريث العائلة المرموقة والعريقة، التي كانت تشغل أحاديث الناس جميعا في الصالونات والمحافل والمقاهي، وريث دون إرث يذكر سوى لقب (السيد النبيل). يفتح له خادم الغرف باب الفندق الذي ينزل به فيحييه بعبارة (صباح الخير أيها السيد النبيل) أو يسأله النادل (ماذا يحب أن يشرب السيد النبيل)

وقد اعتاد هو على هذا اللقب حتى وإن كان لقبا مضحكا ومثيرا للسخرية والهزء عند الآخرين، فالجميع من حوله ومنهم هو لا يعيرون هذه الألقاب أهمية عند الخوض في المسائل الحاسمة طبعا، فلا أحد يفتح وصية تركها أب أو جد ليجد تركة من ألقاب ولا يوجد ورثة يتقاضون أمام المحاكم من أجل تنازع حول ألقاب، من هنا صار لقب السيد النبيل عبارة للتفكه والدعابة أكثر منه عبارة تدل على احترام أو تقدير.

وقد كان يحلو للسيد النبيل تسميته بهذا اللقب عند الناس البسطاء و من هم أقل منه شأنا وأكثر منه عوزا والعكس صحيح عندما يكون بحضرة من هم أرفع منه قدرا وجاها، من لا يعيرون الألقاب أي أهمية تذكر ومعايير الشرف لديهم مخالفة تماما لما يعتقده البسطاء والسطحيون منهم على الخصوص، يجلس بالمقهى واضعا رجلا فوق أخرى متكآ بضهره إلى الخلف واضعا يديه على تكتي الكرسي فما إن يلحظ أن المكان قد أصبح يعج بعلية القوم حتى يعدل من جلسته ويضع رجله على الأرض ويحني برأسه على كتاب أو بعض الأوراق الموضوعة على الطاولة ليوهم الناظر إليه أنه وإن عازه المال والجاه لم ينقصه ذلك علما وثقافة، فما يكاد يقترب أحد مرتادي المقهى من طاولة قرب طاولته ويسحب كرسيه حتى يبدأ السيد النبيل في شكواه من كم الكتب الهائل التي راجعها طيلة الفترة الأخيرة من أجل بحثه الفكري الذي يهتم بأثر الثقافة في بناء حضارة الأمم، فلا يجد من الآخر سوى تحريك دائري لرأسه وابتسامة من  الزاوية اليسرى لفمه لا يفهمها السيد النبيل إلا بعد أن يسأله صاحبه (ألم تنتهي بعد من بحثك أيها السيد النبيل) فيبتسم السيد النبيل ابتسامة سخرية من صاحبه ويجيب (إن البحوث من هذا النوع مليئة بالتسائلات العميقة، لا يكاد الباحث يجيب عن تسائل حتى يجد نفسه أمام تسائل آخر أشد عمقا وإثارة للجدل)، وقد كان السيد النبيل متعودا على هذا النوع من السخرية لكنه كان قد فهم مبكرا أنه لا شيء في هذه الحياة يستحق الاهتمام أو هكذا كان يحاول إقناع نفسه ليقاوم أسئلتها الملحة.

كانت الغرفة التي يسكنها السيد النبيل في فندق رخيص بالطابق الخامس، غرفة صغيرة فقيرة بها كنبة وسرير مهترئ لشخص واحد وخزانة ملابس بدون أبواب ونافذة تطل على شارع يؤدي مباشرة إلى السوق وقد كان هذا الشارع فارغا بالليل ولا تجد أين تضع به رأس إبرة بالنهار لكثرة الناس الذين يمرون منه إلى السوق. كانت إطلالة هذه النافذة تعطيه شعورا عظيما بالراحة، فمنها يرى الناس والأشياء جميعها صغيرة وضئيلة وبعيدة بعدا يريحه من نظراتهم إليه وقربهم منه كما كان ارتفاع الغرفة الشاهق يشعره بعلية عمن هم في الأسفل بالشارع.

أيقظته خادمة الغرف ذات صباح بصراخها العنيف محتفظة طبعا بلقب (السيد النبيل)

-         انهض أيها السيد النبيل، إن صاحبة الفندق تنبهك أنك لم تؤدي أقساط إقامتك طيلة الثلاثة أشهر الماضية.
-         لم كل هذا الصراخ سيدتي؟
-         إنني لست سوى خادمة هنا أيها السيد النبيل ولا أبلغك إلا بما جاء على لسان صاحبة الفندق.
-         ألا تعلم صاحبة الفندق هذه أنني نبيل من عائلة...
ودون أن يكمل كلماته، أجابته الخادمة:
-         إن الناس لا تقتات على الشرف والنبل أيها السيد النبيل، والإنسان بدون مال لا يساوى شيئا.
فكر السيد النبيل أن تصرف صاحبة الفندق هو تصرف حقير من سيدة بديئة الطباع لا عهد لها بأصول  اللباقة والآداب، لا تعطي المثقفين والنبلاء حق قدرهم وفكر أيضا أن هذه البداءة قد أصبحت منتشرة كالعدوى بين الناس الذين يصادفهم بحيث أصبح وجوده بينهم عذاب، وسرح بخياله مفكرا لو بإمكانه أن يبني سياجا أو جدار يفصله عن الجميع ليمنع عنهم رؤيته أو التعليق على حالته  او أن يذهب إلى وجود آخر ذو بعد آخر لا اعتبار فيه لشروط هذا الوجود الذي يشاركه فيه من هب ودب. لبس ثيابه البالية لكنها لا زالت محتفظة بنظافتها وأناقتها مع ذلك. وحينما توجه إلى الباب وفتحها، دنا إلى سمعه صوت ألحان الأغنية الإيطالية الشهيرةbella ciao  يأتي من النافذة، فنظر اتجاه مكان صدور صوت الموسيقى فلمح طائرا صغيرا يقف على حافة النافذة، فوقف في مكانه يتأمله، وبعد برهة قصيرة طار العصفور بعيدا فاقترب السيد النبيل من النافذة يتبعه ببصره حتى اختفى الطائر الصغير بجناحيه داخل ذلك المجال الضيق الذي تغيب فيه السماء في مجال بصر السيد النبيل. رجع قليلا إلى الخلف وجلس على حافة سريره مقابل النافذة، وسأل نفسه أترى ذلك الطائر الصغير، قد اختفى في السماء أم في الأرض أم في مجال موجود فعلا بينهما ولا يتواجد فيه أحد؟ وهل يعقل أن يضيق بذلك الطائر الصغير أن لا يجد ما يريحه لا في السماء ولا في الأرض حتى يلوذ إلى ذلك الحيز الضيق بينهما؟ ابتسم ابتسامة لطيفة وكئيبة في نفس الوقت أرخت ملامح وجهه كاملة حتى يخيل إلى من يراه أنه مبتسم نائم، وفكر أن هؤلاء الملاعين والحقراء لا يستحقون وجوده بينهم كما لا يستحق هذا العالم بأرضه الواسعة وسمائه الفسيحة وجود طائر صغير وجميل في أحضانه فأخد حينها قراره ونهض يخطو باتجاه النافذة تلك التي تطل على الشارع الكبير المؤدي إلى السوق وقد كان مملوءا بالمارة والباعة وصوت ألحان الأغنية لا زال يتردد في رأسه (ذات صباح استيقظت، وداعا يا حلوتي وداعا وداعا يا حلوتي، أيها الطائر خدني معك، أحس باقتراب الموت، ولو مت وأنا أناضل، وداعا يا حلوتي وداعا وداعا...)، وأخبر نفسه أنه سيكون مصيره كمصير ذلك الطائر الصغير، لن تبق هذه الأرض مسكنه المزعج لكي يستفيد الارضيون الجاحدون من زقزقاته الثقافية ولن يصعد إلى السماء حيث سبقه إليها أرضيون رحلوا قبله إليها لأنه سيكون بعد تنفيد قراره مجرد أجزاء من حطام جسده المرتطم على الأرض، وسينظر إليه العالم وتنتابه الحصرة الندم على فقدان  كنزه المفقود وسيظل أبدا جرح العالم المفتوح وتفجعه الدائم لأنهم فقدوا السيد النبيل صاحب الشرف والأصالة والتفرد، فيخلد بذلك إسمه ميتا على الأقل وربما يسمى الشارع المؤدي إلى السوق بإسمه يوما ما عندما تصل أبحاثه إلى كبار المسؤولين في المدينة.

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

تعليق واحد
إرسال تعليق
  1. غير معرف31/1/22 8:10 م

    Why make money out of casino games? - Work
    › games › play › payout › games › play › payout Win when you win more than just playing online หารายได้เสริม casino games, you'll 샌즈카지노 have the 카지노 chance to win some cash in free time and you'll even

    ردحذف

إرسال تعليق

pub-3714699381183573
pub-3714699381183573