القائمة الرئيسية

الصفحات

pub-3714699381183573

شوبنهاور الفيلسوف المتشائم : العالم كإرادة، العالم شر، فلسفة الحياة، العبقري، نقد.

شوبنهاور الفيلسوف المتشائم : العالم كإرادة، العالم شر، فلسفة الحياة، العبقري، نقد.
شوبنهاور

العالم كإرادة :
لقد اتفق العلماء جميعا بغير استثناء على أن جوهر العقل هو الفكر والإدراك. 
ولكن الإدراك مجرد قشرة سطحية لعقولنا،ونحن لا نعلم شيئا عما في داخل هذه القشرة السطحية كما في الأرض لا نعلم عنها سوى قشرتها،إذ أن تحت العقل الواعي إرادة واعية أو لاواعية،وهي قوة حيوية مكافحة ملحة وهي فاعلة تلقائية. إرادة ذات رغبة آمرة عاتية. قد يبدو العقل أحياناً وكأنه هو الذي يقود الإرادة، ولكنه بذلك كالدليل الذي يقود سيده فقط، إن الإرادة هي الرجل الأعمى القوي الذي يحمل على كتفيه الرجل الأعرج المبصر، فنحن لا نريد شيئا لأننا وجدنا أسبابا له،ولكننا نجد أسبابا له لأننا نريده. والإنسان مسوق بإرادته لا بعقله. يقول شوبنهاور لا شيء أكثر إثارة للأعصاب عندما نحاول إقناع إنسان عن طريق الأدلة العقلية والبراهين المنطقية، ونبذل جهودا و ألما في محاولة إقناعه، ثم يتضح لنا أخيرا أنه لم يفهم وسوف لن يفهم، وأننا ينبغي أن نخاطبه عن طريق إثارة ما يريد ويرغب، أي عن طريق إرادته، ومن هنا يتضح عدم فائدة المنطق. لكي تقنع إنسانا يجب أن تلجأ إلى إثارة مصلحته الشخصية إلى رغباته و إرادته. 
إن الإرادة هي الدائم الثابت الوحيد في العقل.. وهي التي تعطي عن طريق غرضها الثابت وحدة لمشاعر الإنسان ووعيه وتربط جميع آرائه وأفكاره بعضها ببعض و جمعها في انسجام دائم مستمر. 
إن شخصية الإنسان تكمن في إرادته، وليس في عقله،وشخصية الإنسان و أخلاقه أيضا استمرار للغرض ووجهة النظر،وهذه إرادة. إن اللغة الشعبية صحيحة عندما تفضل القلب على الرأس و هي تعرف أن الإرادة الطيبة أعمق من العقل الخالص و أكثر اعتماداً. 

العالم شر:
إذا كان العالم في حقيقته إرادة، لابد أن يكون مليئا بالألم والعذاب، وذلك لأن الإرادة نفسها تعني الرغبة، وهي دائما تطلب المزيد عما حصلت عليه، وفي إشباع رغبة يطل من ورائها عشرات الرغبات التي تطلب إشباعها وتحقيقها، إن الرغبة لا نهاية لها، ومن المتعذر إشباعها جميعها، إنها كالصدقة التي ندفعها للفقير تغنيه عن الجوع اليوم ليواجه البؤس والفقر غداً.. ما دامت الإرادة تطغى وتملأ شعورنا، وما دمنا خاضعين لتجمع الرغبات وآمالها ومخاوفها الدائمة، وما دمنا خاضعين للإرادة، فلن نبلغ السعادة الدائمة إطلاقا، هذا بالإضافة إلى أن تحقيق الرغبات لا يستتبع القناعة، ولا شيء يقتل المثل الأعلى أكثر من بلوغه وتحقيقه، إن إشباع العاطفة يؤدي في الغالب إلى الشقاء بدلا من السعادة لأن حاجاتها كثيراً ما تتعارض مع مصلحة صاحبها إلى أن ينتهي الأمر بالقضاء على هذه المصلحة. كل فرد يحمل في نفسه متناقضات هدامة ممزقة والرغبة المشبعة تولد رغبة جديدة تريد إشباعها وهكذا إلى ما لا نهاية. والسبب في هذا هو أن الإرادة لابد أن تعيش على نفسها، إذ لا يوجد شيء بجانبها، وهي إرادة جائعة؟
إن مكيال الألم في كل فرد أمر لامفر منه تقرره طبيعته وهو مكيال يستحيل أن يظل فارغا أو يتسع أكثر من عياره.. فإذا أزيح عن صدورنا هم كبير يضغط عليها.. حل مكانه على الفور هم آخر، لقد كانت مادة هذا الهم موجودة من قبل، ولكنها لم تتمكن من شق طريقها إلى الشعور بها لعدم توفر متسع لها.. أما الآن وقد توفر متسع لها فإنها تتقدم وتحتل عرشها. 
إن الحياة شر لأن الألم دافعها الأساسي وحقيقتها..
إن الحياة شر لأنه لا يكاد الإنسان يشعر براحة من الألم والحاجة حتى يتملكه شعور بالسآمة والملل مما يدفعه إلى البحث عن شيء يعوضه شعوره بالملل والسآمة، ويبدأ في مواجهة المزيد من الألم.
إن الحياة شر لأنه كلما صعد الكائن العضوي وارتقى كلما زاد ما يقاسيه من آلام، وإن زيادة معرفته لن تحل مشكلة آلامه. 

فلسفة الحياة:
إن سيطرة العقل على الإرادة تفسح لنا طريق التطور و الرقي. فالمعرفة تعدل الرغبة و تسكنها و اللجوء إلى الفلسفة الجبرية يساعدنا مساعدة كبيرة في تخفيف حدة رغباتنا و تعديلها، لأن الفلسفة الجبرية تسلم بأن كل شيء نتيجة حتمية لسوابقه ، و نستطيع التغلب على تسعة أمور مثيرة تعكر صفونا و تنغص حياتنا من بين كل عشرة تواجهنا، إذ نحن أدركنا أسبابها إدراكا، و عرفنا حقيقة طبيعتها و ضرورة وقوعها…
ففي وسع العقل أن يكون من إرادة الإنسان بمثابة اللجام من الجواد الجموح. لا شيء يبعث فينا الانسجام أكثر من المعرفة الدقيقة. ولا شيء يحمينا أكثر من السيطرة على نفوسنا، فإذا أردت أن تخضع كل شيء لنفسك أخضع نفسك لعقلك.
وهكذا تصفو الإرادة بالفلسفة، و لكن ينبغي أن نفهم الفلسفة على أساس أنها تجربة وفكر، لا مجرد قراءة ومطالعة و دراسة. 
إن السبيل لإنقاذ الإنسان من شر رغبات الإرادة هو في تأمل الحياة تأملا عقليا و مطالعة ما كتبه أعظم الرجال في جميع العصور و البلدان. فالعقل الأريحي الخالي من الأثرة يصعد فوق أخطاء الإرادة و سخافاتها كما تصعد رائحة العطر الزكية . لن يرتفع معظم الناس أبداً فوق النظر إلى الأشياء باعتبارها مواضع رغبة، من هنا ينشأ بؤسهم، بل يجب أن ننظر للأشياء نظرة خالصة باعتبارها موضوعا للفهم. و إذا انصرف العقل بكليته إلى الأشياء باعتبارها أفكاراً، لا باعتبارها دوافع مثيرة للرغبة، عندئذ يحل بنا السلام الداخلي الذي طالما بحثنا عنه و الذي كان يهرب دائماً منا في طريق الرغبات، و نصل إلى حالة مجردة عن الألم. 

العبقري:
العبقري هو أعلى صورة من صور هذه المعرفة التي تجردت عن الإرادة، كما أن أحط ضروب أنواع الحياة هو ما كان ناجما عن إرادة بحتة، بغير معرفة. والإنسان بصفة العامة تغلب عليه الإرادة أكثر من المعرفة، أما العبقري فتغلب فيه المعرفة و تقل الإرادة، وفي العبقري، تكون الملكة العارفة قد نمت و تطورت تطوراً كبيراً يزيد عما تتطلبه خدمة الإرادة. 
إن العبقرية هي النظرة اللاشخصية المجردة عن المصلحة الشخصية تماماً. إن العبقرية هي القوة التي يتمكن فيها الفرد من نبذ مصالحه و رغباته و أغراضه وإبعادها تماماً عن بصره. 
إن العبقرية هي سيادة المعرفة على الإرادة سيادة واضحة، أما في الحالات العادية فإن الإرادة تسود على المعرفة، و المعرفة تنشط بدافع الإرادة فقط، بحيث تكون المصالح الشخصية والمنفعية هي الموجه للمعرفة. 
فإذا تحرر العقل من الإرادة استطاع أن يرى الشيء كما هو فالعبقرية تمسك لنا بيدها المرآة السحرية التي يظهر لنا فيها كل ما هو ضروري وهام مرتبطاً بعضه ببعض وواضحاً وضوحاً تاماً، أما ما هو عرضي فيبقى مطروحا في الخارج، وفي العبقرية ينفذ الفكر خلال العاطفة، كما تنفذ أشعة الشمس من خلال السحب، فيكشف عن قلب الأشياء، و يسمو الفكر، ويتجاوز الفردي و الخاص. 

نقد:
لقد اعترف شوبنهاور أن سعادة الإنسان تتوقف على الإنسان نفسه أكثر من توقفها على الظروف الخارجية. إن التشاؤم تهمة تقع على عاتق المتشائم نفسه. لقد استمد شوبنهاور فلسفته من مزاجه العصبي و فراغ حياته و عزلته ووحدته وانطوائه على نفسه الذي طبع حياته بطابع السأم و الملل المعتم القاتم. هذا بالإضافة إلى الآلام و الأحزان التي كانت تسود عصره. إذ لا شيء يبعث التشاؤم في الإنسان أكثر من الفراغ و الراحة. 
لقد كان شوبنهاور يخشى المجتمع و لا يتذوق متعة الاجتماع بالناس. والواقع أن السعادة لا معنى لها إذا لم يشاركنا فيها الآخرون. 
وربما كان اشمئزازنا من العالم بسبب اشمئزازنا من أنفسنا، وقد يكون الخطأ و الزلل منا ولكن نضع اللوم على البيئة أو العالم. إن الإنسان الناضج ليقبل ما في الحياة من حدود طبيعية، وكما يقول "كارليل" بأن من السخف والحمق أن نلعن الشمس لأنها لا تشعل لنا سيجارتنا، مع أن الشمس قد تفعل ذلك لو أوتينا من العلم شيئاً. وقد ينقلب هذا الكون الفسيح إلى مكان سعادة عظيمة لو ساعدناه بشيء من ضياء نفوسنا وإشراق روحنا. والواقع أن العالم ليس معنا أو علينا، فما هو إلا مادة أولية في أيدينا، وقد يكون نعيما أو جحيما وفقاً لما جبلت عليه نفوسنا. 
ثم ماذا يضير من أن رغباتنا لا تنتهي، وأن إشباع رغبة يؤدي إلى بعث رغبة أخرى، وقد يكون من الأفضل لنا ألا نقنع ونرضى. فالسعادة كما قيل هي في بلوغ المنى و المراد و ليست في الامتلاك و الشبع. والإنسان السليم العقل والصحة لا يبحث عن السعادة بقدر ما يبحث عن فرصة تمكنه من ممارسة قواه ومواهبه. 
إننا بحاجة إلى العقبات لنرهف بها قوانا وننعش نمونا. والحياة بغير مأساة ليست جديرة بالإنسان. 
  
                            بقلم : ذ. شرف الدين 
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

pub-3714699381183573
pub-3714699381183573